مباحث الالفاظ

الحاجة إلى مباحث الألفاظ
لاشك ان المنطقي لا يتعلق غرضه الأصلي إلا بنفس المعاني( 70 )، ولكنه لا يستغني عن البحث عن أحوال الألفاظ توصلاً إلى المعاني، لانه من الواضح ان التفاهم مع الإنسان ونقل الأفكار بينهم لا يكون غالباً إلا بتوسط لغة من اللغات.
والألفاظ قد يقع فيها التغير والخلط فلا يتم التفاهم بها فاحتاج المنطقي إلى ان يبحث عن أحوال اللفظ من جهة عامة، من غير اختصاص بلغة من اللغات إتماماً للتفاهم، ليزن كلامه وكلام غيره بمقياس صحيح.وقلنا (من جهة عامة)، لأن المنطق علم لا يختص بأهل لغة خاصة، وان كان قد يحتاج إلى البحث عما يختص باللغة التي يستعملها المنطقي فيما قل: كالبحث عن دلالة لام التعريف – في لغة العرب – على الاستغراق وعن كان وأخواتها في إنها من الأدوات والحروف وعن أدوات العموم والسلب.... وما إلى ذلك، ولكنه قد يستغني عن إدخالها في المنطق اعتماداً على علوم اللغة. هذه حاجته من اجل التفاهم( 71 ) مع غيره .
وللمنطقي حاجة أخرى( 72 ) إلى مباحث الألفاظ من اجل نفسه، هي أعظم واشد من حاجته الأولى، بل لعلها هي السبب الحقيقي لإدخال هذه الأبحاث في المنطق.ونستعين على توضيح مقصودنا بذكر تمهيد نافع ثم نذكر وجه حاجة الإنسان في نفسه إلى معرفة مباحث الألفاظ نتيجة للتمهيد فنقول:
إن للأشياء أربعة وجودات: وجودان حقيقيان ووجودان اعتباريان جعليان.
الأول: الوجود الخارجي، كوجودك ووجود الأشياء التي حولك ونحوها، من أفراد الإنسان والحيوان والشجر والحجر والشمس والقمر والنجوم، إلى غير ذلك من الوجودات الخارجية التي لا حصر لها.
الثاني: الوجود الذهني، وهو علمنا بالأشياء الخارجية وغيرها من المفاهيم. وقد قلنا سابقاً ان للإنسان قوة تنطبع فيها صور الأشياء وهذه القوة تسمى الذهن والانطباع فيها يسمى الوجود الذهني الذي هو العلم( 73).
وهذان الوجودان هما الوجودان الحقيقيان لأنهما ليسا بوضع واضع ولا باعتبار معتبر
الثالث:الوجود اللفظي، بيانه:ان الإنسان لما كان اجتماعياً بالطبع ومضطراً للتعامل والتفاهم مع باقي أفراد نوعه، فانه محتاج إلى نقل أفكاره إلى الغير وفهم أفكار الغير والطريقة الأولية للتفهيم هي ان يحضر الأشياء الخارجية بنفسها، ليحس بها الغير بإحدى الحواس
فيدركها.
ولكن هذه الطريقة من التفهيم تكلفه كثيراً من العناء، على انها لا تفي بتفهيم أكثر الأشياء والمعاني، اما لأنها ليست من الموجودات الخارجية أو لأنها لا يمكن إحضارها. فألهم الله تعالى الإنسان طريقة سهلة سريعة في التفهم بان منحه قوة على الكلام والنطق بتقاطيع الحروف ليؤلف منها الألفاظ. وبمرور الزمن دعت الإنسان الحاجة – وهي أم الاختراع – إلى ان يضع( 76 ) لكل معنى يعرفه ويحتاج إلى تفاهم عنه لفظاً خاصاً ليحضر المعاني بالألفاظ بدلاً من احضارها بنفسها ولأجل ان تثبت في ذهنك أيها الطالب هذه العبارة أكررها لك (ليحضر المعاني بالألفاظ بدلاً من إحضارها بنفسها). فتأملها جيداً واعرف ان هذا الإحضار إنما يتمكن الإنسان منه بسبب قوة ارتباط اللفظ بالمعنى وعلاقته به في الذهن. وهذا الارتباط القوي ينشأ من العلم بالوضع وكثرة الأستعمال. فإذا حصل هذا الارتباط القوي لدى الذهن يصبح اللفظ عنده كأنه المعنى، والمعنى كأنه اللفظ أي يصبحان عنده كشيء واحد، فإذا احضر المتكلم اللفظ فكأنما احضر المعنى بنفسه للسامع، فلا يكون فرق لديه بين ان يحضر خارجاً نفس المعنى، وبين ان يحضر لفظه الموضوع، فان السامع في كلا الحالتين ينتقل ذهنه إلى المعنى ولذا قد ينتقل السامع إلى المعنى ويغفل عن اللفظ وخواصه، كأنه لم يسمعه مع انه لم ينتقل إليه إلا بتوسط سماع اللفظ.
وزبدة المخض: ان هذا الارتباط يجعل اللفظ والمعنى كشيء واحد، فإذا وجد اللفظ فكأنما وجد المعنى فلذا نقول (وجود اللفظ وجود المعنى).لكنه وجود لفظي للمعنى أي ان الموجود حقيقة هو اللفظ لا غيره،وينسب وجوده إلى المعنى مجازاً بسبب هذا الارتباط والناشئ من الوضع والشاهد على هذا الارتباط والاتحاد انتقال القبح والحسن من المعنى إلى اللفظ وبالعكس فان اسم المحبوب من أعذب الألفاظ عند المحب وان كان في نفسه لفظاً وحشياً ينفر منه السمع واللسان. واسم العدو من اسمج الألفاظ، وان كان في نفسه لفظاً مستملحاً. وكلما زاد هذا الارتباط زاد الانتقال، ولذا نرى اختلاف القبح في الألفاظ المعبر بها عن المعاني القبيحة، نحو التعابير عن عورة الإنسان، فكثير الاستعمال أقبح من قليله والكناية اقل قبحاً بل قد لا يكون فيها قبح كما كنّى القران الكريم بالفروج.
وكذا رصانة التعبير وعذوبته يعطي جمالاً في المعنى لا نجده في التعبير الركيك الجافي، فيضفي جمال اللفظ على المعنى جمالاً وعذوبة.
الرابع: الوجود الكتبي، شرحه: ان الألفاظ وحدها لا تكفي للقيام بحاجات الإنسان كلها، لأنها تختص بالمشافهين،اما الغائبون والذين سيوجدون، فلابد لهم من وسيلة أخرى لتفهيمهم، فالتجأ الإنسان ان يصنع النقوش الخطية لإحضار ألفاظه الدالة على المعاني، بدلاً من
النطق بها، فكان الخط وجوداً للفظ.
 وقد سبق ان قلنا: ان اللفظ وجود للمعنى.
فلذا نقول:(ان وجود الخط وجود للفظ ووجود للمعنى تبعاً)، ولكنه وجود كتبي للفظ والمعنى،أي ان الموجود حقيقة هو الكتابة لا غير، وينسب الوجود إلى اللفظ والمعنى مجازاً بسبب الوضع، كما ينسب وجود اللفظ إلى المعنى مجازاً بسبب الوضع.
إذن: الكتابة تحضر الألفاظ، والألفاظ تحضر المعاني في الذهن، والمعاني الذهنية تدل على الموجودات الخارجية.فأتضح ان الوجود اللفظي والكتبي (وجودان مجازيان اعتباريان للمعنى) بسبب الوضع والاستعمال.
النتيجة: لقد سمعت هذا البيان المطول وغرضنا ان نفهم منه الوجود اللفظي، وقد فهمنا ان اللفظ والمعنى لأجل قوة الارتباط بينهما كالشيء الواحد فإذا أحضرت اللفظ بالنطق فكأنما أحضرت المعنى بنفسه.
ومن هنا: نفهم كيف يؤثر هذا الارتباط على تفكير الإنسان بينه وبين نفسه، ألا ترى نفسك عندما تحضر أي معنى كان في ذهنك لابد ان تحضر معه لفظه ايضاً، بل أكثر من ذلك تكون انتقالاتك الذهنية من معنى إلى معنى بتوسط إحضارك لألفاظها في الذهن، فانا نجد انه لا ينفك غالباً تفكيرنا في أي أمر كان عن تخيل الألفاظ وتصورها، كأنما نتحدث إلى نفوسنا ونناجيها بالألفاظ التي نتخيلها، فنرتب الألفاظ في أذهاننا، وعلى طبقها نرتب المعاني وتفصيلاتها كما لو كنا نتكلم مع غيرنا. قال الحكيم العظيم الشيخ الطوسي في شرح الإشارات: (الانتقالات الذهنية قد تكون بألفاظ ذهنية. وذلك لرسوخ العلاقة المذكورة – يشير إلى علاقة اللفظ بالمعنى – في الأذهان). فإذا اخطأ المفكر في الألفاظ الذهنية، أو تغيرت عليه أحوالها يؤثر ذلك على أفكاره وانتقالاته الذهنية للسبب المتقدم.
فمن الضروري لترتيب الأفكار الصحيحة لطالب العلوم ان يحسن معرفة أحوال الألفاظ من وجهة عامة، وكان لزاماً على المنطقي ان يبحث عنها مقدمة لعلم المنطق، واستعانة بها على تنظيم أفكاره الصحيحة.



---------------------------------------
(70) غرض المنطقي الأصلي هو فهم المعاني ولا يتوصل إليها إلا بواسطة الألفاظ لأنها قوالب للمعاني. والذي يقول ان الألفاظ متناهية والمعاني غير متناهية فكيف ينطبق المتناهي على اللامتناهي؟ نقول ان الألفاظ غير متناهية ايضاً فينطبق المتناهي على اللامتناهي ولو سلمنا ان الألفاظ متناهية فإننا نضع الألفاظ للمعاني الكلية، المعاني الكلية متناهية إذن ينطبق هذا على هذا إضافة لذلك يقال ان الإنسان متناهي فهو يحتاج إلى المعاني المتناهية لأنه لا يمكن إحاطة المتناهي باللامتناهي فالإنسان لا يحتاج إلى المعاني اللامتناهية بل هو غير قادر على الاحاطة وللكلام تفصيل في القول.
(71 ) وهو الترتيب وتنظيم الأفكار الصحيحة بان اللفظ والمعنى بينهما قوة ارتباط وكأنهما كالشيء الواحد فإحضار اللفظ كإحضار المعنى حتى وان كان الإحضار في ذهن الشخص ولذا قال الحكيم الطوسي(قدس سره): الانتقالات الذهنية قد تكون بألفاظ ذهنية وذلك لرسوخ العلاقة المذكورة في الأذهان.
(72) هذا البحث إلى أخره ليس منهاج دراستنا ولكننا وضعناه للطلاب الذين يرغبون في التوسع حرصاً على فائدتهم.وهو بحث له قيمته العلمية، لاسيما في مباحث أصول الفقه (منه قدس سره ).
(73 ) وهو مدركات الإنسان للأشياء الخارجية وغيرها من المعاني أو المفاهيم والصور المنطبعة للذهن في تلك الأشياء والمعاني يسمى الوجود الذهني الذي هو العلم.
(74 ) أي لا يوجد لهما واضع سواء قلنا بإلهية الوضع أو قلنا ببشرية الوضع أي بان الواضع هم البشر.
(75 ) أي بمعنى ان يعتبر هذا اللفظ لهذا المعنى، وسيأتي الكلام عن نظرية الاعتبار والنظريات الأخرى كالتعهد والاقتران الأكيد
(76 ) لقد اختلف العلماء في واضع اللغات أهو الله أو الإنسان فممن يقول بإلهية الوضع الشيخ النائيني (قدس سره) ويؤيد بل يستدل على هذه النظرية بنصوص قرآنية مثل (وعلم آدم الأسماء كلها) أي إلقاء الوحي من الله بجعل هذا اللفظ لهذا المعنى أي ان الله هو الواضع للألفاظ والمعاني وقد رد (قدس سره) على الذي يقول ببشرية الوضع ب:
1-ان الألفاظ دخلت في صغريات الأمور فلا نستطيع ان نتصور ان الواضع يتمكن ان يصل إلى مسائل دقيقة في كل العلوم ولا يوجد مطلع على خلفيات الأمور ودقائقها سوى الله.
2- لو كان هناك واضع لذكره التأريخ. اما الذي يقول ببشرية الوضع فهو لا يقول ان الواضع واحد ولكن يقول بدأ مجتمع بدائي أسس مجموعة من الألفاظ ومجتمع آخر في مكان آخر والتفت هذه المجتمعات أسسوا مجموعة من الألفاظ فكونوا لغة قوم وكذلك الآخرين وهكذا أسسوا اللغات ومن خلال التدريج والتعميق وطول الزمن ظهرت دقائق الأمور فوضع لها الألفاظ. إذن الواضع هم البشرية بصور عامة حسب هذا القول فلا يستطيع ان يذكر لنا التأريخ شخصاً معيناً، ربما يقال انه تعالى علمه أسماء الكليات، أو علمه أسماء الأشياء التي سيواجهها ويتعامل ويفكر بها في ظروفه التي كان يعيش بها، أو علمه أسماء بعض الأشخاص، وربما يقال ايضاً نرد الاستدلال بالآية القرآنية (وعلم آدم الأسماء كلها) يقول الإمام علي(عليه السلام): (يوجد ألف ألف آدم وألف ألف عالم) فيكون كلامنا ليس في آدم المتأخر والذي علمه الله اللغة التي تعلمها بل في الفترة التي سبقت آدم(عليه السلام) (أي سبقت آدمنا(عليه السلام) ) والمشهور وجود ثلاث نظريات في الوضع
هي:
1- نظرية الاعتبار.
 2- نظرية التعهد.
3- نظرية الاقتران الأكيد.
وسيأتي تتمة الكلام في محله في مرحلة الأصول.