العلم ضروري ونظري

ينقسم العلم بكلا قسميه التصور والتصديق إلى قسمين:
1-الضروري ويسمى ايضاً (البديهي) وهو ما لا يحتاج في حصوله إلى كسب ونظر وفكر( 50 )، فيحصل بالاضطرار وبالبداهة التي هي المفاجئة والارتجال من دون توقف كتصورنا لمفهوم الوجود والعدم ومفهوم الشيء وكتصديقنا بان الكل أعظم من الجزء وبان النقيضين لا يجتمعان وبان الشمس طالعة وان الواحد نصف الاثنين وهكذا.....( 51).
2- والنظري: وهو ما يحتاج حصوله إلى كسب ونظر وفكر، كتصورنا لحقيقة الروح والكهرباء، وكتصديقنا بان الأرض ساكنة أو متحركة حول نفسها وحول الشمس ويسمى ايضاً (الكسبي).
(توضيح القسمين):ان بعض الأمور يحصل العلم بها من دون انعام نظر وفكر فيكفي في حصوله ان تتوجه النفس إلى الشيء بأحد أسباب التوجه الآتية من دون توسط عملية فكرية كما مثلنا، وهذا هو الذي يسمى (بالضروري البديهي) سواء أكان تصوراً أم تصديقاً. وبعضها لا يصل الإنسان إلى العلم بها بسهولة، بل لابد من انعام النظر واجراء عمليات عقلية ومعادلات فكرية كالمعادلات الجبرية فيتوصل بالمعلومات عنده إلى العلم بهذه الأمور (المجهولات)، ولا يستطيع ان يتصل بالعلم بها رأساً من دون توسيط هذه المعلومات وتنظيمها على وجه صحيح، لينتقل الذهن منها إلى ما كان مجهولاً عنده، كما مثلنا وهذا هو الذي يسمى ب(النظري أو الكسبي) سواء
كان تصوراً أو تصديقاً.
توضيح في النظري
قلنا ان العلم الضروري هو الذي لا يحتاج إلى الفكر وانعام النظر واشرنا إلى انه لابد من توجه النفس بأحد أسباب التوجه( 52 )، وهذا ما يحتاج إلى بعض البيان. فان الشيء قد يكون بديهياً ولكن يجهله الإنسان لفقد سبب توجه النفس، فلا يجب ان يكون الإنسان عالماً بجميع البديهيات، ولا يضر ذلك ببداهة البديهي، ويمكن حصر أسباب التوجه في الأمور التالية:
1-الانتباه: وهذا السبب مطرد في جميع البديهيات فالغافل قد يخفى عليه أوضح الواضحات.
2- سلامة الذهن: وهذا مطرد ايضاً فان من كان سقيم الذهن قد يشك في اظهر الأمور أو لا يفهمه، وقد ينشأ هذا السقم من نقصان طبيعي أو مرض عارض أو تربية فاسدة.
3- سلامة الحواس: وهذا خاص بالبديهيات المتوقفة على الحواس الخمسة وهي المحسوسات فإن الأعمى أو ضعيف البصر يفقد كثيراً من العلم بالمنظورات وكذا الأصم في المسموعات وفاقد الذائقة في المذوقات وهكذا( 53).
4- فقدان الشبهة: والشبهة: ان يؤلف الذهن دليلاً فاسداً يناقض بديهية من البديهيات ويغفل عما فيه من المغالطة، فيشك بتلك البديهية أو يعتقد بعدمها( 54 ). وهذا يحدث كثيراً في العلوم الفلسفية والجدليات فان من البديهيات، عند العقل ان الوجود والعدم نقيضان وان
النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولكن بعض المتكلمين دخلت عليه الشبهة في هذه البديهية، فحسب ان الوجود والعدم لهما واسطة وسماها (الحال)، فهما يرتفعان عندها، ولكن مستقيم التفكير إذا حدث له ذلك وعجز عن كشف المغالطة يردها ويقول إنها، شبهة في مقابل البديهية.
5- عملية غير عقلية: لكثير من البديهيات، كالاستماع إلى كثيرين يمتنع تواطئهم على الكذب في المتواترات وكالتجربة في التجريبات، وكسعي الإنسان لمشاهدة بلاد أو استمتاع بصوت في المحسوسات.... وما إلى ذلك. فإذا احتاج الإنسان للعلم بشيء إلى تجربة طويلة مثلاً، وعناء عملي فلا يجعله ذلك علماً نظرياً مادام لا يحتاج إلى الفكر والعملية العقلية.


-----------------------------
(50) ربما يقال: الضروري هو الذي يحصل للإنسان من دون ان يتدبر ويفكر فيحصل بالاضطرار أي تنطبع صورة الشيء في العقل دون اختيار لان الإنسان هو الذي يستطيع توجيه نفسه ويستطيع عدم ذلك فكيف نتصور الاضطرار؟فانه يقال: يحتمل انه يريد بالضرورة أي بعد توجه النفس إلى الشيء وسلامتها من العيوب والشبهات فانه على هذا يحصل انطباع صورة الشيء في الذهن وهذا تطبيق ومن صغريات قانون الاستجابة الطبيعية للإحساس.
(51 ) ويمكن القول انه لا يوجد شيء بديهي حقيقة إلا وهو ما اتفق عليه جميع الناس والعقلاء. فالبديهية نسبية فيوجد شيء بديهي عند شخص ونظري عند شخص آخر.
(52) قوله (قدس سره): (لابد من توجه النفس بأحد أسباب التوجه) يناقض مع قوله عندما يذكر أسباب التوجه ويقول:
(الانتباه مطرد في جميع البديهيات وسلامة الذهن مطرد ايضاً) فإذا كان هذان السببان مطردين في جميع البديهيات ينبغي للمصنف إلا يذكر كلمة (بأحد) بل الأصح ان يقول لابد من توجه النفس بسببين على الأقل من أسباب التوجه.
(53) وهذا كما قال الفيلسوف أرسطو: (من فقد حساً فقد علماً ). لأنه مثلًا من خلال النظر إلى الأشياء تحضر صورة المعنى الحقيقي لذلك الشيء في الذهن فيقارنها العقل مع ما يماثلها من المعلومات المخزونة عنده ويحكم على هذا الشيء من خلال ما عنده من معلومات لكن إذا كان فاقد البصر لا تحضر عنده الصورة الحقيقية لمعنى هذا الشيء وهكذا في جميع الحواس إذا كان فاقداً لها فانه يفقد كثيراً من المعلومات.
54 ) وأسباب حصول الشبهة كثيرة مثلًا الكليات أو الماهيات هل لها وجود مستقل أو لا أو الملازمات من استحالة اجتماع النقيضين أو الضدين أين توجد أو شريك الباري مستحيل أين وجود هذه القضية أي في أي عالم توجد؟ قالوا توجد في عالم الخارج، لكن هي غير متحققة فيه وقالوا في عالم العدم، ولكن لا يصح الحكم على المعدوم وقالوا بوجودها في العقل الأول، لكن ثبت بالبرهان عدم صحة القول بوجود العقل الأول، والصحيح انها موجودة في عالم الواقع....