وقد تسأل: على أي نحو تحصل للإنسان هذه الإدراكات؟ ونحن قد قربنا لك فيما مضى نحو حصول هذه الإدراكات بعض الشيء، ولزيادة التوضيح نكلفك ان تنظر إلى شيء أمامك، ثم تطبق عينيك موجهاً نفسك نحوه، فستجد في نفسك كأنك لا تزال مفتوح العينين تنظر إليه، وكذلك إذا سمعت دقات الساعة – مثلاً – ثم سددت أ ذُنيك موجهاً نفسك نحوها، فستحس من نفسك كأنك لا تزال سمعها.... وهكذا في كل حواسك إذا جربت مثل هذه الأمور ودققتها جيداً، يسهل عليك ان تعرف ان الإدراك أو العلم إنما هو انطباع صور الأشياء في نفسك، لا فرق بين مدركاتك في جميع مراتبها، كما تنطبع صور الأشياء في المرآة ولذلك عرفوا العلم بانه:
(حضور صورة( 24 ) الشيء( 25 ) عند( 26 ) العقل( 27 )) أو فقل انطباعها في العقل لا فرق بين التعبيرين في المقصود.
التصور والتصديق( 28 ) إذا رسمت مثلثاً تحدث في ذهنك صورة له هي علمك بهذا المثلث ويسمى هذا العلم ب(التصور)( 29 ) وهو تصور مجرد لا يستتبع جزماً واعتقاداً. وإذا انتبهت إلى زوايا المثلث تحدث لها ايضاً صورة في ذهنك. وهي ايضاً من (التصور المجرد) وإذا رسمت خطاً أفقياً وفوقه خطاً عمودياً مقاطعاً له تحدث زاويتان قائمتان فتنتقش صورة الخطين والزاويتين في ذهنك وهي من التصور (التصور المجرد)( 30 ) ايضاً.
وإذا أردت ان تقارن بين القائمتين ومجموع زوايا المثلث فتسأل في نفسك هل هما متساويان وتشك في تساويهما، تحدث عندك صورة لنسبة التساوي بينهما وهي من (التصور المجرد) ايضاً فإذا برهنت على تساويهما تحصل لك حالة جديدة مغايرة للحالات السابقة، وهي إدراكك لمطابقة النسبة للواقع المستلزم لحكم النفس وإذعانها وتصديقها بالمطابقة. وفي هذه الحالة أي صورة المطابقة للواقع التي تعقلتها وادركتها هي التي تسمى ب(التصديق) لانها إدراك يستلزم تصديق النفس وإذعانها تسمية للشيء باسم لازمه الذي لا ينفك عنه.
إذن إدراك زوايا المثلث وإدراك الزاويتين القائمتين وإدراك نسبة التساوي بينهما كلها (تصورات مجردة) لا يتبعها حكم وتصديق.
اما إدراك ان هذا التساوي صحيح واقع مطابقة للحقيقة في نفس الأمر فهو تصديق.
وكذلك اذا ادركت ان النسبة في الخبر غير مطابق فهذا الإدراك (تصديق).
(تنبيه):
إذا لاحظت ما مضى يظهر لك ان التصور والإدراك والعلم كلها ألفاظ لمعنى واحد وهو حضور صور الأشياء عند العقل، فالتصديق ايضاً تصور ولكنه تصور يستتبع الحكم وقناعة النفس وتصديقها وانما لأجل التمييز بين التصور المجرد أي غير المستتبع للحكم وبين التصور المستتبع له سمي الأول (تصوراً) لانه تصور محض ساذج مجرد، فيستحق اطلاق لفظ (التصور) عليه مجرداً من كل قيد وسمي الثاني (تصديقاً) لانه يستتبع الحكم والتصديق كما قلنا تسميته بالشيء باسم لازمه. اما إذا قيل (التصور المطلق) فانما يراد به ما يساوق العلم والإدراك فيعم كلا ( التصورين: التصور المجرد والتصور المستتبع للحكم (التصديق)( 31)(32).
بماذا يتعلق
التصديق والتصور؟
ليس للتصديق إلا مورد واحد يتعلق به، وهو النسبة في الجملة الخبرية عند الحكم والإذعان بمطابقتها للواقع أو عدم مطابقتها، واما التصور فيتعلق بأحد أربع أمور:
1-المفرد ( 33 ) من اسم، وفعل (كلمة) وحرف (أداة).
2-(النسبة في الخبر) عند الشك فيها أو توهمها حيث لا تصديق، كتصورنا لنسبة السكنى إلى المريخ مثلاً عندما يقال (المريخ مسكون).
3- ( النسبة في الإنشاء )( 34 ) من أمر ونهي وتمني واستفهام إلى أخر الأمور الإنشائية التي لا واقع لها وراء الكلام، فلا مطابقة فيها للواقع خارج الكلام، فلا تصديق ولا إذعان.
4-المركب الناقص( 35 )، كالمضاف والمضاف إليه والشبيه بالمضاف،والموصول وصلته، والصفة والموصوف، وكل واحد من طرفي الجملة الشرطية.... إلى آخر الكلمات الناقصة التي لا يستتبع تصورها تصديقاً وإذعان.
ففي قوله تعالى (ان تعدوا نعمة الله لا تحصوها).الشرط (تعدوا نعمة الله) معلوم تصوري وجزاء (لا تحصوها) معلوم تصوري ايضاً
وإنما كانا معلومين تصوريين لانهما وقعا كذلك جزاءاً وشرطاً في الجملة الشرطية وإلا ففي انفسهما لولاها كل منهما معلوم تصديقي وقوله (نعمة الله) معلوم تصوري مضاف. ومجموع الجملة معلوم تصديقي.
أقسام التصديق
ينقسم التصديق إلى قسمين: يقين وظن لان التصديق هو ترجيح احد طرفي الخبر وهما الوقوع و اللاوقوع سواء كان الطرف الآخر محتملاً أو لا فان كان هذا الترجيح مع نفي احتمال الطرف الآخر بتاً فهو (اليقين) وان كان مع وجود الاحتمال ضعيفاً فهو (الظن).
وتوضيح ذلك:
انك إذا عرضت على نفسك خبراً من الأخبار فأنت لا تخلو عن احد حالات أربع:
اما انك لا تجوز إلا طرفاً واحداً منه اما وقوع الخبر أو عدم وقوعه، واما ان تجوز الطرفين وتحتملهما معاً.
والأول هو اليقين.
والثاني وهو تجويز الطرفين له ثلاث صور لانه لا يخلو اما ان يتساوى الطرفان في الاحتمال أو يترجح احدهما على الآخر، فان تساوى الطرفان فهو المسمى بـ(الشك) وان ترجح احدهما فان كان الراجح مضمون الخبر وقوعه فهو (الظن) الذي هو من أقسام التصديق، وان كان الراجح الطرف الآخر فهو (الوهم) الذي هو من أقسام الجهل وهو عكس الظن فتكون الحالات أربعاً و لا خامسة لها:
1-اليقين: وهو ان تصدق بمضمون الخبر ولا تحتمل كذبه، أو تصدق بعدمه ولا تحتمل صدقه أي انك تصدق به على نحو الجزم وهو أعلى قسمي التصديق( 36)(37).
2-الظن:هو ان ترجح مضمون الخبر أو عدمه مع تجويز الطرف الآخر وهو أدنى قسمي التصديق( 38).
3-الوهم: هو ان تحتمل مضمون الخبر( 39 ) أو عدمه مع ترجيح الطرف الآخر( 40)
4-الشك:وهو ان يتساوى احتمال الوقوع واحتمال العدم(41).
(تنبيه):
يعرف مما تقدم أمران:
(الأول): ان الوهم والشك ليسا من أقسام التصديق بل هما من أقسام الجهل،(والثاني): ان الظن والوهم دائماً يتعاكسان فانك إذا توهمت مضمون الخبر فأنت تظن بعدمه، وإذا كنت تتوهم عدمه فانك تظن بمضمونه، فيكون الظن لأحد الطرفين توهماً للطرف الآخر(42)
------------------------------------------
(24) قوله الصورة أعم من الصورة الشخصية أو صورة البرهان أو صورة القياس أو صورة افتراضية.....
25 ) ان قلت: الشيء وهو ما يصح ان يخبر عنه، لكن يقال: ان الفعل شيء فهل يصح ان يخبر عنه هذا لو سلمنا كلامك في ان قلت، وان قلت ان الشيئية تساوق الوجود فكيف يمثل شريك الباري والعنقاء والقول هي ليست موجودة فكيف تحضر صورتها للذهن بل لا تحضر صورتها لانها سالبة بانتفاء الموضوع وهذا معناه انه لا يشملها العلم لان صورتها لا تحضر في الذهن
والجواب ان المقصود بالشيء هو الأعم مطلقاً من الوجود الذهني والخارجي لكن يرد على ان قلت وجوابها:
1- ان المقام يحتاج إلى تحديد الشيء هل هو عرض عام أو هو جنس الأجناس.
2- بعد هذا يجب تبديد بعض المسلمات مثل قول الفلاسفة (الشيء ما لم يجب لم يوجد) وحتى لو قلنا المقصود (الممكن ما لم يجب يوجد) فان الممكن شيء وهو في المقام معدوم لانه لم يجب بعد.
3-على قولك بان العلم الفعلي يقابل العلم المنشئي وان العلم المنشئي يشترط فيه وجود المعلوم قبل العلم به (فالعنقاء) في المثال أو (شريك الباري) أو (استحالة اجتماع النقيضين) أي وجودها حتى يعلم بها الذهن فتوجد في الذهن.
4- قولك المقصود بالشيء الأعم من الوجود الذهني والخارجي فانه يرد إشكال وهو ان الله تعالى شيء أو ليس بشيء وهل وجوده خارجي أو ذهني وكيف يحصل العلم به وايضاً يقال ان الاستحالة والملازمات أين وجودها حتى يتصورها العقل ومثل الاستحالة كيف يتصورها الذهن وكيف توجد في الذهن.
(26) فان قلت ان التعبير ب(عند) يدل على ان المدركات خارج العقل قريبة منه ويلزم من ذلك ان التعريف يشمل العلم بالجزئيات دون الكليات. نقول ان (عند) لا تختص بهذا المعنى بل تأتي بمعنى كما نقول كنت عند بيت فلان ولو تنزلنا واستخدمنا كلمة في التعريف ان تدل على الظرفية فالمظروف حينئذ هي الكليات والظرف العقل لان الجزئيان لا تكون مظروفة للعقل فلابد من استخدام عند.
(27 ) العقل: هو جوهر مجرد عن المادة متعلق بالبدن. وقد أشكل على ذكر عند العقل في التعريف حيث قالوا بان هذا مخرج للجزئيات لان العقل مدرك للكليات أي ان العلم لا يشمل الجزئيات.
الجواب: ان الإدراك قسمان.
1- إدراك بلا واسطة وهو إدراك الكليات وهو ما يسمى بالعرض الذاتي أي يكون العرض منتزعاً عن مرحلة الذات فيوصف باعتباره جزءاً منه ووصفاً داخلياً له وهذا هو الذاتي في باب الكليات الخمسة (الايساغوجي) كما سيأتي شرحه في الأصول.
2 -وإدراك بواسطة وهو إدراك الجزئيات والذي يسمى بالعرض الغريب وهو ما يعرض على الشيء بواسطة أمر اخص (داخلي أو خارجي) أو أعم (داخلي أو خارجي) أو مباين، والواسطة على هذا التعريف هي الحواس على هذا فالجزئيات مدرك عند العقل لكن إدراكها ليس مباشراً وانما بالواسطة فتدخل الجزئيات بالتعريف، (اما نقاش هذا الكلام ومعرفة الصحيح والتام فسيأتي في علم الأصول إن شاء الله تعالى كما سنعرف معنى العرض الذاتي والعرض الغريب وموضوع العلم وتعريف العلم).
(28 ) ان أول من قسم العلم إلى تصور وتصديق هو المعلم الثاني الفارابي.
(29 ) التصور: هو حضور الصورة في الذهن من دون حكم وإذعان ويسمى هذا تصوراً ساذجاً بسيطاً.
(30 ) التصور ينقسم إلى قسمين احدهما ما لا يحتاج في حصوله إلى تكلف كتصور الحرارة والبرودة ويقال له البديهي (ايضاً)والتصور الثاني وهو يحتاج في حصوله إلى تكلف كتصور...والتصور الثاني وهو يحتاج في حصوله إلى تكلف كتصور الجنس والملك والروح.
والجنس: هو جسم ناري سفلي يتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب والخنزير.
والملك: هو جسم نوراني علوي يتشكل بأشكال مختلفة عدا الكلب والجنزير.
والروح: هو جوهر مجرد يتعلق بالبدن كتعلق ماء الورد بالورد.
والتصور المطلق: وهو المقسم الذي يشمل التصور البسيط الذي هو بدون حكم والتصور الذي فيه حكم ويسمى التصديق والتصور المطلق يسمى ايضاً إدراكاً أو علماً.
(31) هذا التوضيح لمعنى التصور والتصديق هو خلاصة آراء المحققين من المناطقة والفلاسفة والذي أشار إليه الشيخ الرئيس ابن سينا في الإشارات بان التصديق هو تصور معه حكم وإذعان وقد أضاف صدر المتألهين لتحقيقه في هذا الموضوع برسالته المعروفة (رسالة التصور والتصديق) فأزالت كل الاوهام والتشكيكات والمغالطات والتي تعتبر من المسائل الصعبة والمستعصية على المبتدئين.... وأشكل بعضهم بان تقسيم التصور إلى تصورين بانه من تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره وهذا مما لا يصلح في القسمة
كما سيأتي في نهاية هذا الجزء.
لان التصور الذي هو قسم من العلم هو تصور مطلق ايضاً فكيف ينقسم التصور المطلق إلى تصور مطلق وتصور مقيد
وهو من التصديق.
وجوابه:
ان التصور (القسم) ليس هو التصور المطلق انما هو التصور المقيد بعدم الحكم وبالتجريد من الحكم.
وقد يشكل ثانياً:
بان التصور المطلق المقسم لا يصدق لا على التصور ولا على التصديق لان كل منهما تصور مقيد غاية الأمر ان التصور مقيد بعدم الحكم والتصديق مقيد بالحكم.
والجواب:
ان المراد من التصور المطلق (المقسم) ليس هو التصور بقيد الاطلاق وانما المراد منه مطلق التصور أي التصور لا بشرط الاطلاق فهو ينقسم إلى التصور يشرط عدم الحكم أي بشرط لا والتصور بشرط الحكم أي بشرط شيء ومن هنا عبر بعض الفلاسفة بان مطلق التصور ينقسم إلى التصور المطلق أي بقيد الاطلاق والتصور المقيد وهو التصديق.
وان آراء العلماء مختلفة في حقيقة التصديق فذهب الحكماء إلى انه عبارة عن نفس الحكم على وجه الإذعان فهو أمر بسيط عندهم لكنه مشروط في تحققه أمور وهي:
1- تصور الموضوع له.
2- تصور المحمول.
3- تصور النسبة.
4- الإذعان فالحكم بمطابقته النسبة للواقع أم لا والأخير هو التصديق.
وذهب الفخر الرازي الى ان التصديق مركب من أمور أربعة أي تلك الأمور الأجزاء الأربعة أجزاء التصديق وداخله في
ماهيته. وذهب صاحب الشمسية ان التصديق هو تصور الموضوع وتصور المحمول وتصور النسبة ولكن بشرط الحكم أي ان
الحكم خارج عن ماهية التصديق. ويرد على مذهب الحكماء ان الإذعان هو الحكم فعل من أفعال النفس فكيف يمكن التوفيق بين هذا وبين القائل ان العلم
من مقولة الكيف النفساني والذي هو صاحب الحاشية الملا عبد الله وبين المقولتين تباين؟
وأجيب عن ذلك:
لكن هنا اصطلاحاً يقصد به الإدراك لكن لا مطلقاً بل إدراك يستلزم حكم النفس وإذعانها في الموضوع واللاموضوع ثم قال تسمية الشيء باسم لازمه. ويرد على مذهب الرازي إشكال مستحكم هو ان الجزء الرابع الإذعان اما ان يكون فعل أو إدراك فان كان فعل ليس بعلم واما ان يكون من مقولة الكيف أو الإضافة أو الانفعال والإدراك مباين للتصورات الثلاثة الأولى فيكون الجامع من
الأجزاء الأربعة وبين بعضها تباين. والكلام طويل خصوصاً في رسالتي التصور والتصديق للقطب الرازي وصدر المتألهين.
وفي المقام يمكن طرح بعض ما استفدناه من كلمات المحقق المعلم الأستاذ السيد الصدر(قدس سره) بان الفرق بين التصور والتصديق ليس في الصورة الذهنية بل في أمر ورائها، وهو الإشارة الفعلية للصورة إلى خارج الذهن وعدمه حيث يوجد فرضان:
الفرض الأول (التصور): ان الذهن لا يستطيع ان يشير بالصورة الذهنية إلى واقع موضوعي خارج الذهن فيكون مجرد تصور.
الفرض الثاني (التصديق): ان الذهن يستطيع ان يشير للصورة الذهنية إلى واقع موضوعي خارج الذهن ويكشف به عنه فيكون تصديقاً.
وعلى هذا يقال، ان تعدد العلوم والتصديقات يكون بحسب الدقة وبتعدد الإشارة الفعلية بالصور الذهنية إلى الخارج، فكلما كانت هناك اشارات فعلية متعددة إلى الخارج كانت العلوم متعددة، وكلما كانت الإشارة الفعلية إلى الخارج واحدة فالعلم واحد، مهما تركبت الصور التي بها الإشارة إلى الخارج، بحيث يزول ذلك العلم بزوال تلك الإشارة ولا يبقى إلا التصور المحض. وتفصيل الكلام في علم الأصول ومن تطبيقات هذه المسألة نجدها في الاستصحاب مثلًا ويأتي تفصيل الكلام ان شاء الله تعالى.
(32) وتطبيق ما استفيد من كلماته نجده في ما ذكر (قدس سره) وينبغي ان يعلم ان الحاكم انما ينصب حكمه في الحقيقة على الصورة الذهنية لا على الموضوع الحقيقي للحكم لان الحكم لما كان أمراً ذهنياً فلا يمكن ان يتعلق إلا بما هو حاضر في الذهن وليس ذلك إلا الصورة الذهنية وهي وان كانت مباينة للموضوع الخارجي بنظر ولكنها عينه بنظرآخر، فأنت إذا تصورت النار ترى بتصورك ناراً ولكنك إذا لاحظت بنظرة ثانية إلى ذهنك وجدت فيه صورة ذهنية للنار لا النار نفسها ولما كان ما في الذهن عين الموضوع الخارجي بالنظر التصوري والحمل الأولي صح ان يحكم عليه بنفس ما هو ثابت للموضوع الخارجي من خصوصيات كالإحراق بالنسبة إلى النار وهذا يعني ان يكفي في إصدار الحكم على الخارج إحضار صورة ذهنية تكون بالنظر التصوري عن الخارج وربط الحكم بها وان كانت بنظرة ثانوية فاحصة وتصديقية أي بالحمل الشايع مغايرة للخارج.
(33) المفرد كمحمد وعلي وجعفر وحجر ويسافر ونحوها فالمفرد عند المناطقة هو نفس الكلمة باصطلاح النحويين بأقسامها الثلاثة.
(34 ) النسبة الإنشائية من أمر ونهي وتمني واستفهام إلى آخر الأمور الإنشائية. والنسبة هنا بين طرفين والنسبة تحتاج إلى طرف ثالث وهو الوعاء مثل وعاء الطلب أو وعاء الزجر أو وعاء التمني أو وعاء الاستفهام. فهي إذن نسبة تامة خبرية مدركة بإدراك غير إذعاني.
(35 ) المركبات الناقصة مثل المضاف والمضاف إليه (مدرس المدرسة) وجمل الشرط مثاله (إذا جاء محمد، إذا طلعت الشمس)
والموصول وصلته مثاله(أكرم الذي جاء) والصفة والموصوف ومثاله (زيد الطويل) إلى آخر المركبات الناقصة فكلها تصورات لانها لا يستتبعها حكم وإذعان. ففي قوله تعالى (إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) فالشرط (إن تعدوا نعمة الله) فهو معلوم تصوري وهذا الشرط بدون لحاظ كونه شرطاً في الجملة الشرطية يمكن التصديق به ان يستتبع حكم فإذا رأيتهم يعدون بنعم الله فتكون مطابقة للواقع فهي صادقة وإذا لم تجدهم يعدون نعم الله فتصديق لانها غير مطابقة للواقع فهي كاذبة وكذلك الكلام في لا تحصوها.
فهذه الأمور الأربعة كلها تصورات لانها لا يستتبعها حكم ايجابي ولا سلبي.
إذن بما يتعلق التصديق؟
والجواب: يتعلق بأمر واحد هو النسبة الخبرية عند الحكم والاعتقاد بمطابقتها للواقع أو عدم مطابقتها له.
(36) لان نسبة التصديق به تكون ( 100 % ) وعليه فنسبة (التصديق) بعدمه هي (صفر % ). ولليقين معنى آخر في اصطلاحهم وهو خصوص التصديق الجازم المطابق للواقع لا عن تقليد وهو اخص من معناه المذكور في المتن لان المقصود به التصديق الجازم المطابق للواقع سواء كان عن تقليد أو لا، هذا من حاشية الكتاب للمظفر(قدس سره).
(37 ) يعطي لهذا المعنى في علم الأصول عدة اصطلاحات:
1- منها حجية (القطع) حيث ذكر السيد الصدر(قدس سره) للقطع كاشفية بذاته عن الخارج وله ايضاً نتيجة لهذه الكاشفية محركية نحو ما يوافق الغرض الشخصي للقاطع إذا انكشف له بالقطع فالعطشان إذا قطع بوجود الماء خلفه تحرك نحو تلك الجهة طالباً للماء وللقطع إضافة إلى الكاشفية و المحركية المذكورتين خصوصية ثالثة وهي: الحجية بمعنى ان القطع بالتكليف ينجز ذلك التكليف أي يجعله موضوعاً لحكم العقل بوجوب امتثاله وصحة العقاب على مخالفته.
2- منها العلم الإجمالي والتفصيلي.
3- منها القطع الطريقي والقطع الموضوعي.
كما انه يعطي للدليل الذي يفيد الظن مصطلح الإمارة كما انه يمكن القول بوجود قسم من الظن له اثر التصديق وهو الاطمئنان الذي هو له ما للقطع من تنجيز و تعذير ولكنه يفرق عنه في ان القطع ليس من حق المولى ان يردع عن العمل به بخلاف الاطمئنان الذي يمكن الردع عن العمل به وانما كان الاطمئنان بحكم التصديق لان القيمة الاحتمالية التي تقابل الطرف الآخر ضئيلة جداً.
(38) ونسبة التصديق به ( 51 % ) إلى ( 99%) ونسبة التصديق بعدمه من ( 1 % ) إلى ( 49%)
(39 ) وقوله (تحتمل مضمون) فهل هذا الاحتمال على نحو اليقين أو على نحو الظن أو على الشك أو الوهم والظاهر انه يريده على نحو الظن لان كلامه هذا ذكره في تعريف الوهم وقال نرجح الطرف الآخر (أي طرف الوهم) ولكن يبقى اما في تعريف الظن فقد ذكر عبارة (منع تجويز الطرف الآخر) فماذا يقصد بهذا التجويز أو الجواز لان الجواز أعم من اليقين أو الظن به أو الشك أو الوهم فكلها جائزة ومحكية ومحتملة وحسب ظاهر عبارته انه يقصد منها الوهم لان في تعريف الظن رجح مضمون الخبر (أي طرف الظن) فالظاهر من التجويز هناك هو الوهم لان الظن بطرف يقابله الوهم بالطرف الآخر.
لكن هنا يبقى إشكال وهو ان المقام أي تعريف الوهم يرجح الطرف الآخر كما عرفنا فان هذا معناه فيه الوهم قلنا ان الطرف الأول هو الظن فقوله (تحتمل مضمون الخبر) الذي استظهرنا ان معناه هو الظن بمضمون الخبر فهل ترك هذا الطرف المظنون ورجح الطرف الموهوم عناداً أو شبهة وبعبارة أخرى ان تحديد الوهم بلحاظ الشخص المتوهم مثلًا ولدفع هذا الإشكال نحتاج إلى معرفة المحتملات في اللحاظ أي لحاظ اليقين والظن والشك والوهم وهي:
أولاً: نلاحظهما لمطابقة الاعتقاد وبمطابقة الواقع.
ثانياً: نلاحظ التفصيل بين ما يحتمله الشخص وبين ما يعتقد به وبين ما يرجحه في مقام العمل والقول.
ثالثاً: نلاحظها تارة بالنسبة لمضمون الخبر نفسه ان هذا الخبر يقيني المضمون وهذا ظني وهذا وهم وأخرى بالنسبة
للشخص فنقول هذا متيقن وهذا ظان وهذا شاك وهذا متوهم.( 10% - 49 %) ونسبة التصديق بعدمه ( 51 % - 99%)
(40 ) ونسبة التصديق به ( 10%-% 41 ) ونسبة التصديق به ( 50 %) ونسبة التصديق بعدمه ( 50%)
(حضور صورة( 24 ) الشيء( 25 ) عند( 26 ) العقل( 27 )) أو فقل انطباعها في العقل لا فرق بين التعبيرين في المقصود.
التصور والتصديق( 28 ) إذا رسمت مثلثاً تحدث في ذهنك صورة له هي علمك بهذا المثلث ويسمى هذا العلم ب(التصور)( 29 ) وهو تصور مجرد لا يستتبع جزماً واعتقاداً. وإذا انتبهت إلى زوايا المثلث تحدث لها ايضاً صورة في ذهنك. وهي ايضاً من (التصور المجرد) وإذا رسمت خطاً أفقياً وفوقه خطاً عمودياً مقاطعاً له تحدث زاويتان قائمتان فتنتقش صورة الخطين والزاويتين في ذهنك وهي من التصور (التصور المجرد)( 30 ) ايضاً.
وإذا أردت ان تقارن بين القائمتين ومجموع زوايا المثلث فتسأل في نفسك هل هما متساويان وتشك في تساويهما، تحدث عندك صورة لنسبة التساوي بينهما وهي من (التصور المجرد) ايضاً فإذا برهنت على تساويهما تحصل لك حالة جديدة مغايرة للحالات السابقة، وهي إدراكك لمطابقة النسبة للواقع المستلزم لحكم النفس وإذعانها وتصديقها بالمطابقة. وفي هذه الحالة أي صورة المطابقة للواقع التي تعقلتها وادركتها هي التي تسمى ب(التصديق) لانها إدراك يستلزم تصديق النفس وإذعانها تسمية للشيء باسم لازمه الذي لا ينفك عنه.
إذن إدراك زوايا المثلث وإدراك الزاويتين القائمتين وإدراك نسبة التساوي بينهما كلها (تصورات مجردة) لا يتبعها حكم وتصديق.
اما إدراك ان هذا التساوي صحيح واقع مطابقة للحقيقة في نفس الأمر فهو تصديق.
وكذلك اذا ادركت ان النسبة في الخبر غير مطابق فهذا الإدراك (تصديق).
(تنبيه):
إذا لاحظت ما مضى يظهر لك ان التصور والإدراك والعلم كلها ألفاظ لمعنى واحد وهو حضور صور الأشياء عند العقل، فالتصديق ايضاً تصور ولكنه تصور يستتبع الحكم وقناعة النفس وتصديقها وانما لأجل التمييز بين التصور المجرد أي غير المستتبع للحكم وبين التصور المستتبع له سمي الأول (تصوراً) لانه تصور محض ساذج مجرد، فيستحق اطلاق لفظ (التصور) عليه مجرداً من كل قيد وسمي الثاني (تصديقاً) لانه يستتبع الحكم والتصديق كما قلنا تسميته بالشيء باسم لازمه. اما إذا قيل (التصور المطلق) فانما يراد به ما يساوق العلم والإدراك فيعم كلا ( التصورين: التصور المجرد والتصور المستتبع للحكم (التصديق)( 31)(32).
بماذا يتعلق
التصديق والتصور؟
ليس للتصديق إلا مورد واحد يتعلق به، وهو النسبة في الجملة الخبرية عند الحكم والإذعان بمطابقتها للواقع أو عدم مطابقتها، واما التصور فيتعلق بأحد أربع أمور:
1-المفرد ( 33 ) من اسم، وفعل (كلمة) وحرف (أداة).
2-(النسبة في الخبر) عند الشك فيها أو توهمها حيث لا تصديق، كتصورنا لنسبة السكنى إلى المريخ مثلاً عندما يقال (المريخ مسكون).
3- ( النسبة في الإنشاء )( 34 ) من أمر ونهي وتمني واستفهام إلى أخر الأمور الإنشائية التي لا واقع لها وراء الكلام، فلا مطابقة فيها للواقع خارج الكلام، فلا تصديق ولا إذعان.
4-المركب الناقص( 35 )، كالمضاف والمضاف إليه والشبيه بالمضاف،والموصول وصلته، والصفة والموصوف، وكل واحد من طرفي الجملة الشرطية.... إلى آخر الكلمات الناقصة التي لا يستتبع تصورها تصديقاً وإذعان.
ففي قوله تعالى (ان تعدوا نعمة الله لا تحصوها).الشرط (تعدوا نعمة الله) معلوم تصوري وجزاء (لا تحصوها) معلوم تصوري ايضاً
وإنما كانا معلومين تصوريين لانهما وقعا كذلك جزاءاً وشرطاً في الجملة الشرطية وإلا ففي انفسهما لولاها كل منهما معلوم تصديقي وقوله (نعمة الله) معلوم تصوري مضاف. ومجموع الجملة معلوم تصديقي.
أقسام التصديق
ينقسم التصديق إلى قسمين: يقين وظن لان التصديق هو ترجيح احد طرفي الخبر وهما الوقوع و اللاوقوع سواء كان الطرف الآخر محتملاً أو لا فان كان هذا الترجيح مع نفي احتمال الطرف الآخر بتاً فهو (اليقين) وان كان مع وجود الاحتمال ضعيفاً فهو (الظن).
وتوضيح ذلك:
انك إذا عرضت على نفسك خبراً من الأخبار فأنت لا تخلو عن احد حالات أربع:
اما انك لا تجوز إلا طرفاً واحداً منه اما وقوع الخبر أو عدم وقوعه، واما ان تجوز الطرفين وتحتملهما معاً.
والأول هو اليقين.
والثاني وهو تجويز الطرفين له ثلاث صور لانه لا يخلو اما ان يتساوى الطرفان في الاحتمال أو يترجح احدهما على الآخر، فان تساوى الطرفان فهو المسمى بـ(الشك) وان ترجح احدهما فان كان الراجح مضمون الخبر وقوعه فهو (الظن) الذي هو من أقسام التصديق، وان كان الراجح الطرف الآخر فهو (الوهم) الذي هو من أقسام الجهل وهو عكس الظن فتكون الحالات أربعاً و لا خامسة لها:
1-اليقين: وهو ان تصدق بمضمون الخبر ولا تحتمل كذبه، أو تصدق بعدمه ولا تحتمل صدقه أي انك تصدق به على نحو الجزم وهو أعلى قسمي التصديق( 36)(37).
2-الظن:هو ان ترجح مضمون الخبر أو عدمه مع تجويز الطرف الآخر وهو أدنى قسمي التصديق( 38).
3-الوهم: هو ان تحتمل مضمون الخبر( 39 ) أو عدمه مع ترجيح الطرف الآخر( 40)
4-الشك:وهو ان يتساوى احتمال الوقوع واحتمال العدم(41).
(تنبيه):
يعرف مما تقدم أمران:
(الأول): ان الوهم والشك ليسا من أقسام التصديق بل هما من أقسام الجهل،(والثاني): ان الظن والوهم دائماً يتعاكسان فانك إذا توهمت مضمون الخبر فأنت تظن بعدمه، وإذا كنت تتوهم عدمه فانك تظن بمضمونه، فيكون الظن لأحد الطرفين توهماً للطرف الآخر(42)
------------------------------------------
(24) قوله الصورة أعم من الصورة الشخصية أو صورة البرهان أو صورة القياس أو صورة افتراضية.....
25 ) ان قلت: الشيء وهو ما يصح ان يخبر عنه، لكن يقال: ان الفعل شيء فهل يصح ان يخبر عنه هذا لو سلمنا كلامك في ان قلت، وان قلت ان الشيئية تساوق الوجود فكيف يمثل شريك الباري والعنقاء والقول هي ليست موجودة فكيف تحضر صورتها للذهن بل لا تحضر صورتها لانها سالبة بانتفاء الموضوع وهذا معناه انه لا يشملها العلم لان صورتها لا تحضر في الذهن
والجواب ان المقصود بالشيء هو الأعم مطلقاً من الوجود الذهني والخارجي لكن يرد على ان قلت وجوابها:
1- ان المقام يحتاج إلى تحديد الشيء هل هو عرض عام أو هو جنس الأجناس.
2- بعد هذا يجب تبديد بعض المسلمات مثل قول الفلاسفة (الشيء ما لم يجب لم يوجد) وحتى لو قلنا المقصود (الممكن ما لم يجب يوجد) فان الممكن شيء وهو في المقام معدوم لانه لم يجب بعد.
3-على قولك بان العلم الفعلي يقابل العلم المنشئي وان العلم المنشئي يشترط فيه وجود المعلوم قبل العلم به (فالعنقاء) في المثال أو (شريك الباري) أو (استحالة اجتماع النقيضين) أي وجودها حتى يعلم بها الذهن فتوجد في الذهن.
4- قولك المقصود بالشيء الأعم من الوجود الذهني والخارجي فانه يرد إشكال وهو ان الله تعالى شيء أو ليس بشيء وهل وجوده خارجي أو ذهني وكيف يحصل العلم به وايضاً يقال ان الاستحالة والملازمات أين وجودها حتى يتصورها العقل ومثل الاستحالة كيف يتصورها الذهن وكيف توجد في الذهن.
(26) فان قلت ان التعبير ب(عند) يدل على ان المدركات خارج العقل قريبة منه ويلزم من ذلك ان التعريف يشمل العلم بالجزئيات دون الكليات. نقول ان (عند) لا تختص بهذا المعنى بل تأتي بمعنى كما نقول كنت عند بيت فلان ولو تنزلنا واستخدمنا كلمة في التعريف ان تدل على الظرفية فالمظروف حينئذ هي الكليات والظرف العقل لان الجزئيان لا تكون مظروفة للعقل فلابد من استخدام عند.
(27 ) العقل: هو جوهر مجرد عن المادة متعلق بالبدن. وقد أشكل على ذكر عند العقل في التعريف حيث قالوا بان هذا مخرج للجزئيات لان العقل مدرك للكليات أي ان العلم لا يشمل الجزئيات.
الجواب: ان الإدراك قسمان.
1- إدراك بلا واسطة وهو إدراك الكليات وهو ما يسمى بالعرض الذاتي أي يكون العرض منتزعاً عن مرحلة الذات فيوصف باعتباره جزءاً منه ووصفاً داخلياً له وهذا هو الذاتي في باب الكليات الخمسة (الايساغوجي) كما سيأتي شرحه في الأصول.
2 -وإدراك بواسطة وهو إدراك الجزئيات والذي يسمى بالعرض الغريب وهو ما يعرض على الشيء بواسطة أمر اخص (داخلي أو خارجي) أو أعم (داخلي أو خارجي) أو مباين، والواسطة على هذا التعريف هي الحواس على هذا فالجزئيات مدرك عند العقل لكن إدراكها ليس مباشراً وانما بالواسطة فتدخل الجزئيات بالتعريف، (اما نقاش هذا الكلام ومعرفة الصحيح والتام فسيأتي في علم الأصول إن شاء الله تعالى كما سنعرف معنى العرض الذاتي والعرض الغريب وموضوع العلم وتعريف العلم).
(28 ) ان أول من قسم العلم إلى تصور وتصديق هو المعلم الثاني الفارابي.
(29 ) التصور: هو حضور الصورة في الذهن من دون حكم وإذعان ويسمى هذا تصوراً ساذجاً بسيطاً.
(30 ) التصور ينقسم إلى قسمين احدهما ما لا يحتاج في حصوله إلى تكلف كتصور الحرارة والبرودة ويقال له البديهي (ايضاً)والتصور الثاني وهو يحتاج في حصوله إلى تكلف كتصور...والتصور الثاني وهو يحتاج في حصوله إلى تكلف كتصور الجنس والملك والروح.
والجنس: هو جسم ناري سفلي يتشكل بأشكال مختلفة حتى الكلب والخنزير.
والملك: هو جسم نوراني علوي يتشكل بأشكال مختلفة عدا الكلب والجنزير.
والروح: هو جوهر مجرد يتعلق بالبدن كتعلق ماء الورد بالورد.
والتصور المطلق: وهو المقسم الذي يشمل التصور البسيط الذي هو بدون حكم والتصور الذي فيه حكم ويسمى التصديق والتصور المطلق يسمى ايضاً إدراكاً أو علماً.
(31) هذا التوضيح لمعنى التصور والتصديق هو خلاصة آراء المحققين من المناطقة والفلاسفة والذي أشار إليه الشيخ الرئيس ابن سينا في الإشارات بان التصديق هو تصور معه حكم وإذعان وقد أضاف صدر المتألهين لتحقيقه في هذا الموضوع برسالته المعروفة (رسالة التصور والتصديق) فأزالت كل الاوهام والتشكيكات والمغالطات والتي تعتبر من المسائل الصعبة والمستعصية على المبتدئين.... وأشكل بعضهم بان تقسيم التصور إلى تصورين بانه من تقسيم الشيء إلى نفسه وغيره وهذا مما لا يصلح في القسمة
كما سيأتي في نهاية هذا الجزء.
لان التصور الذي هو قسم من العلم هو تصور مطلق ايضاً فكيف ينقسم التصور المطلق إلى تصور مطلق وتصور مقيد
وهو من التصديق.
وجوابه:
ان التصور (القسم) ليس هو التصور المطلق انما هو التصور المقيد بعدم الحكم وبالتجريد من الحكم.
وقد يشكل ثانياً:
بان التصور المطلق المقسم لا يصدق لا على التصور ولا على التصديق لان كل منهما تصور مقيد غاية الأمر ان التصور مقيد بعدم الحكم والتصديق مقيد بالحكم.
والجواب:
ان المراد من التصور المطلق (المقسم) ليس هو التصور بقيد الاطلاق وانما المراد منه مطلق التصور أي التصور لا بشرط الاطلاق فهو ينقسم إلى التصور يشرط عدم الحكم أي بشرط لا والتصور بشرط الحكم أي بشرط شيء ومن هنا عبر بعض الفلاسفة بان مطلق التصور ينقسم إلى التصور المطلق أي بقيد الاطلاق والتصور المقيد وهو التصديق.
وان آراء العلماء مختلفة في حقيقة التصديق فذهب الحكماء إلى انه عبارة عن نفس الحكم على وجه الإذعان فهو أمر بسيط عندهم لكنه مشروط في تحققه أمور وهي:
1- تصور الموضوع له.
2- تصور المحمول.
3- تصور النسبة.
4- الإذعان فالحكم بمطابقته النسبة للواقع أم لا والأخير هو التصديق.
وذهب الفخر الرازي الى ان التصديق مركب من أمور أربعة أي تلك الأمور الأجزاء الأربعة أجزاء التصديق وداخله في
ماهيته. وذهب صاحب الشمسية ان التصديق هو تصور الموضوع وتصور المحمول وتصور النسبة ولكن بشرط الحكم أي ان
الحكم خارج عن ماهية التصديق. ويرد على مذهب الحكماء ان الإذعان هو الحكم فعل من أفعال النفس فكيف يمكن التوفيق بين هذا وبين القائل ان العلم
من مقولة الكيف النفساني والذي هو صاحب الحاشية الملا عبد الله وبين المقولتين تباين؟
وأجيب عن ذلك:
لكن هنا اصطلاحاً يقصد به الإدراك لكن لا مطلقاً بل إدراك يستلزم حكم النفس وإذعانها في الموضوع واللاموضوع ثم قال تسمية الشيء باسم لازمه. ويرد على مذهب الرازي إشكال مستحكم هو ان الجزء الرابع الإذعان اما ان يكون فعل أو إدراك فان كان فعل ليس بعلم واما ان يكون من مقولة الكيف أو الإضافة أو الانفعال والإدراك مباين للتصورات الثلاثة الأولى فيكون الجامع من
الأجزاء الأربعة وبين بعضها تباين. والكلام طويل خصوصاً في رسالتي التصور والتصديق للقطب الرازي وصدر المتألهين.
وفي المقام يمكن طرح بعض ما استفدناه من كلمات المحقق المعلم الأستاذ السيد الصدر(قدس سره) بان الفرق بين التصور والتصديق ليس في الصورة الذهنية بل في أمر ورائها، وهو الإشارة الفعلية للصورة إلى خارج الذهن وعدمه حيث يوجد فرضان:
الفرض الأول (التصور): ان الذهن لا يستطيع ان يشير بالصورة الذهنية إلى واقع موضوعي خارج الذهن فيكون مجرد تصور.
الفرض الثاني (التصديق): ان الذهن يستطيع ان يشير للصورة الذهنية إلى واقع موضوعي خارج الذهن ويكشف به عنه فيكون تصديقاً.
وعلى هذا يقال، ان تعدد العلوم والتصديقات يكون بحسب الدقة وبتعدد الإشارة الفعلية بالصور الذهنية إلى الخارج، فكلما كانت هناك اشارات فعلية متعددة إلى الخارج كانت العلوم متعددة، وكلما كانت الإشارة الفعلية إلى الخارج واحدة فالعلم واحد، مهما تركبت الصور التي بها الإشارة إلى الخارج، بحيث يزول ذلك العلم بزوال تلك الإشارة ولا يبقى إلا التصور المحض. وتفصيل الكلام في علم الأصول ومن تطبيقات هذه المسألة نجدها في الاستصحاب مثلًا ويأتي تفصيل الكلام ان شاء الله تعالى.
(32) وتطبيق ما استفيد من كلماته نجده في ما ذكر (قدس سره) وينبغي ان يعلم ان الحاكم انما ينصب حكمه في الحقيقة على الصورة الذهنية لا على الموضوع الحقيقي للحكم لان الحكم لما كان أمراً ذهنياً فلا يمكن ان يتعلق إلا بما هو حاضر في الذهن وليس ذلك إلا الصورة الذهنية وهي وان كانت مباينة للموضوع الخارجي بنظر ولكنها عينه بنظرآخر، فأنت إذا تصورت النار ترى بتصورك ناراً ولكنك إذا لاحظت بنظرة ثانية إلى ذهنك وجدت فيه صورة ذهنية للنار لا النار نفسها ولما كان ما في الذهن عين الموضوع الخارجي بالنظر التصوري والحمل الأولي صح ان يحكم عليه بنفس ما هو ثابت للموضوع الخارجي من خصوصيات كالإحراق بالنسبة إلى النار وهذا يعني ان يكفي في إصدار الحكم على الخارج إحضار صورة ذهنية تكون بالنظر التصوري عن الخارج وربط الحكم بها وان كانت بنظرة ثانوية فاحصة وتصديقية أي بالحمل الشايع مغايرة للخارج.
(33) المفرد كمحمد وعلي وجعفر وحجر ويسافر ونحوها فالمفرد عند المناطقة هو نفس الكلمة باصطلاح النحويين بأقسامها الثلاثة.
(34 ) النسبة الإنشائية من أمر ونهي وتمني واستفهام إلى آخر الأمور الإنشائية. والنسبة هنا بين طرفين والنسبة تحتاج إلى طرف ثالث وهو الوعاء مثل وعاء الطلب أو وعاء الزجر أو وعاء التمني أو وعاء الاستفهام. فهي إذن نسبة تامة خبرية مدركة بإدراك غير إذعاني.
(35 ) المركبات الناقصة مثل المضاف والمضاف إليه (مدرس المدرسة) وجمل الشرط مثاله (إذا جاء محمد، إذا طلعت الشمس)
والموصول وصلته مثاله(أكرم الذي جاء) والصفة والموصوف ومثاله (زيد الطويل) إلى آخر المركبات الناقصة فكلها تصورات لانها لا يستتبعها حكم وإذعان. ففي قوله تعالى (إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) فالشرط (إن تعدوا نعمة الله) فهو معلوم تصوري وهذا الشرط بدون لحاظ كونه شرطاً في الجملة الشرطية يمكن التصديق به ان يستتبع حكم فإذا رأيتهم يعدون بنعم الله فتكون مطابقة للواقع فهي صادقة وإذا لم تجدهم يعدون نعم الله فتصديق لانها غير مطابقة للواقع فهي كاذبة وكذلك الكلام في لا تحصوها.
فهذه الأمور الأربعة كلها تصورات لانها لا يستتبعها حكم ايجابي ولا سلبي.
إذن بما يتعلق التصديق؟
والجواب: يتعلق بأمر واحد هو النسبة الخبرية عند الحكم والاعتقاد بمطابقتها للواقع أو عدم مطابقتها له.
(36) لان نسبة التصديق به تكون ( 100 % ) وعليه فنسبة (التصديق) بعدمه هي (صفر % ). ولليقين معنى آخر في اصطلاحهم وهو خصوص التصديق الجازم المطابق للواقع لا عن تقليد وهو اخص من معناه المذكور في المتن لان المقصود به التصديق الجازم المطابق للواقع سواء كان عن تقليد أو لا، هذا من حاشية الكتاب للمظفر(قدس سره).
(37 ) يعطي لهذا المعنى في علم الأصول عدة اصطلاحات:
1- منها حجية (القطع) حيث ذكر السيد الصدر(قدس سره) للقطع كاشفية بذاته عن الخارج وله ايضاً نتيجة لهذه الكاشفية محركية نحو ما يوافق الغرض الشخصي للقاطع إذا انكشف له بالقطع فالعطشان إذا قطع بوجود الماء خلفه تحرك نحو تلك الجهة طالباً للماء وللقطع إضافة إلى الكاشفية و المحركية المذكورتين خصوصية ثالثة وهي: الحجية بمعنى ان القطع بالتكليف ينجز ذلك التكليف أي يجعله موضوعاً لحكم العقل بوجوب امتثاله وصحة العقاب على مخالفته.
2- منها العلم الإجمالي والتفصيلي.
3- منها القطع الطريقي والقطع الموضوعي.
كما انه يعطي للدليل الذي يفيد الظن مصطلح الإمارة كما انه يمكن القول بوجود قسم من الظن له اثر التصديق وهو الاطمئنان الذي هو له ما للقطع من تنجيز و تعذير ولكنه يفرق عنه في ان القطع ليس من حق المولى ان يردع عن العمل به بخلاف الاطمئنان الذي يمكن الردع عن العمل به وانما كان الاطمئنان بحكم التصديق لان القيمة الاحتمالية التي تقابل الطرف الآخر ضئيلة جداً.
(38) ونسبة التصديق به ( 51 % ) إلى ( 99%) ونسبة التصديق بعدمه من ( 1 % ) إلى ( 49%)
(39 ) وقوله (تحتمل مضمون) فهل هذا الاحتمال على نحو اليقين أو على نحو الظن أو على الشك أو الوهم والظاهر انه يريده على نحو الظن لان كلامه هذا ذكره في تعريف الوهم وقال نرجح الطرف الآخر (أي طرف الوهم) ولكن يبقى اما في تعريف الظن فقد ذكر عبارة (منع تجويز الطرف الآخر) فماذا يقصد بهذا التجويز أو الجواز لان الجواز أعم من اليقين أو الظن به أو الشك أو الوهم فكلها جائزة ومحكية ومحتملة وحسب ظاهر عبارته انه يقصد منها الوهم لان في تعريف الظن رجح مضمون الخبر (أي طرف الظن) فالظاهر من التجويز هناك هو الوهم لان الظن بطرف يقابله الوهم بالطرف الآخر.
لكن هنا يبقى إشكال وهو ان المقام أي تعريف الوهم يرجح الطرف الآخر كما عرفنا فان هذا معناه فيه الوهم قلنا ان الطرف الأول هو الظن فقوله (تحتمل مضمون الخبر) الذي استظهرنا ان معناه هو الظن بمضمون الخبر فهل ترك هذا الطرف المظنون ورجح الطرف الموهوم عناداً أو شبهة وبعبارة أخرى ان تحديد الوهم بلحاظ الشخص المتوهم مثلًا ولدفع هذا الإشكال نحتاج إلى معرفة المحتملات في اللحاظ أي لحاظ اليقين والظن والشك والوهم وهي:
أولاً: نلاحظهما لمطابقة الاعتقاد وبمطابقة الواقع.
ثانياً: نلاحظ التفصيل بين ما يحتمله الشخص وبين ما يعتقد به وبين ما يرجحه في مقام العمل والقول.
ثالثاً: نلاحظها تارة بالنسبة لمضمون الخبر نفسه ان هذا الخبر يقيني المضمون وهذا ظني وهذا وهم وأخرى بالنسبة
للشخص فنقول هذا متيقن وهذا ظان وهذا شاك وهذا متوهم.( 10% - 49 %) ونسبة التصديق بعدمه ( 51 % - 99%)
(40 ) ونسبة التصديق به ( 10%-% 41 ) ونسبة التصديق به ( 50 %) ونسبة التصديق بعدمه ( 50%)