العلم

تمهيد
قلنا: ان الله تعالى خلق الإنسان مفطوراً على التفكير، مستعداً لتحصيل المعارف بما أعطي من قوة عاقلة مفكرة يمتاز بها عن العجماوات. ولا باس ببيان موطن هذا الامتياز من أقسام العلم الذي نبحث عنه( 19 )، مقدمة لتعريف العلم ولبيان علاقة
المنطق به فنقول:
1- إذا ولد الإنسان يولد وهو خلي النفس من كل فكرة وعلم فعلي( 20 ) سوى هذا الاستعداد الفطري. فإذا نشأ وأصبح ينظر ويسمع ويذوق ويشم ويلمس نراه يحس بما حوله من الأشياء، ويتأثر بها التأثر المناسب، فتنفعل نفسه بها، فنعرف ان نفسه التي كانت خالية أصبحت مشغولة بحالة جديدة نسميها (العلم) وهي العلم الحسي الذي هو ليس إلا حس النفس بالأشياء التي تنالها الحواس الخمس
(الباصرة، السامعة، الشامة، الذائقة، اللامسة).
وهذا أول درجات العلم، وهو رأس المال لجميع العلوم التي يحصل عليها الإنسان،ويشاركه فيه سائر الحيوانات التي لها جميع هذه الحواس أو بعضها( 21).
2- ثم ترتقي مدارك الطفل فيتصرف ذهنه في صور المحسوسات المحفوظة عنده فينسب بعضها إلى بعض وهذا أطول من ذاك، وهذا الضوء أنور من الآخر أو مثله ويؤلف بعضها من بعض تأليفاً قد لا يكون له وجود في الخارج كتأليفه لصور الأشياء التي يسمع بها ولا يراها فيتخيل البلدة التي لم يرها، مؤلفة من الصور الذهنية المعروفة عنده من مشاهداته للبلدان وهذا هو (العلم الخيالي)
يحصل عليه الإنسان بقوة الخيال وقد يشاركه فيه بعض الحيوانات.
3- ثم يتوسع في إدراكه إلى أكثر من المحسوسات فيدرك المعاني الجزئية التي لا مادة لها ولا مقدار. مثل حب أبويه له، وعداوة مبغضيه، وخوف الخائف، وحزن الثاكل، وفرح المستبشر.
وهذا هو (العلم الوهمي) يحصل عليه الإنسان كغيره من الحيوانات بقوة (الوهم) وهي – هذه القوةموضع افتراق الإنسان عن الحيوان، فيترك الحيوان وحده يدبر إدراكاته بالوهم فقط. ويصرفها بما يستطيعه من هذه القوة والحول المحدود.
4- ثم يذهب  هو الإنسان  في طريقه وحده متميزاً عن الحيوان بقوة العقل والفكر التي لا حد لها ولا نهاية فيدير بها دفة مدركاته الحسية والخيالية والوهمية، ويميز الصحيح منها عن الفاسد وينتزع المعاني الكلية من الجزئيات التي ادركها فيتعقلها ويقيس بعضها على بعض وينتقل من معلوم إلى آخر، ويستنتج ويحكم، ويتصرف ما شاءت له قدرته العقلية والفكرية، وهذا (العلم) الذي يحصل للإنسان بهذه القوة هو العلم الأكمل( 22 ) الذي كان به الإنسان إنساناً، ولأجل نموه وتكامله وضعت العلوم والفت الفنون وبه وتفاوتت الطبقات واختلفت الناس.
وعلم المنطق وضع من بين العلوم، لأجل تنظيم تصرفات هذه القوة خوفاً من تأثير الوهم والخيال عليها، ومن ذهابها في غير الصراط المستقيم لها(23)

-------------------------------------
(18) قال الشيخ المظفر(قدس سره): المبحوث عنه هنا هو العلم المعبر عنه في لسان الفلاسفة بالعلم (الحصولي) اما العلم (الحضوري)، كعلم النفس بذاتها و بصفاتها القائمة بذاتها وبأفعالها واحكامها وأحاديثها النفسية، وكعلم الله تعالى بنفسه وبمخلوقاته فلا تدخل فيه الأبحاث الأتية في الكتاب، لانه ليس حصوله للعالم بارتسام صورة المعلوم في نفسه، بل بحضور نفس المعلوم بوجوده الخارجي العيني للعلم، فان الواحد منا يجد من نفسه انه يعلم بنفسه وشؤونها ويدركها حق الإدراك، ولكن لا بانتقاش صورها، وانما الشيء الموجود هو حاضر لذاته دائماً بنفس وجوده وكذا المخلوقات حاضرة لخالقها بنفس وجودها فيكون الفرق بين الحصولي و الحضوري:
1-ان الحصولي هو حضور صورة المعلوم لدى العالم. و الحضوري هو حضور نفس المعلوم لدى العالم.
2- ان المعلوم بالعلم الحصولي وجوده العلمي غير وجوده العيني وان المعلوم بالعلم الحضوري وجوده العلمي عين وجوده العيني.
3- ان الحصولي هو الذي ينقسم إلى التصور والتصديق و الحضوري لا ينقسم إلى التصور والتصديق منه (قدس سره).
(19 ) يقصد بالذي نبحث عنه هو العلم الحصولي وليس العلم الحضوري.
(20 ) ان قلت: يقصد بالعلم الفعلي: هو العلم الذي يوجد قبل وجود المعلوم، بل هو الذي يوجد المعلوم كعلم الله سبحانه بالأشياء قبل إيجادها فانه تعالى خلق الموجودات على أساس علمه بها، لا انه تعالى علم بها بعد ان أوجدها والعلم الفعلي يقابل العلم المنشئ.
قلت:
1- الظاهر ان هذا ليس هو مراد الشيخ المظفر(قدس سره) بل يقصد بالفعل هذا مقابل القوة أي ان نفس الإنسان عند ولادته تملك الفكر والعلم بالقوة اما هل يوجد في النفس عند الولادة فكرة فعلًا وعلم فعلًا فالجواب، كلا.
2- ان قولك (بل هو الذي يوجد المعلوم ) قابل للمناقشة:
أ – وذلك لان العلم عبارة عن صورة (ذهنية) والصورة لا تكون علة لوجود المتصور بل ان المتصور يوجد بوجود
علته وهذه العلة ايضاَ لها صورة ولها علة ولعلتها علة.... وربما يمكن توجيه هذا الكلام بان يقال ان هذا الكلام يتفرع
عن مبحث الإرادة على احد الأقوال لمعنى الإرادة وهو ان الإرادة بمعنى العلم بالنظام ممكن القول بان العلم هو الذي
يوجد المعلوم، لكن هذا الكلام بحثه في مبحث الإرادة حيث رددنا على هذا القول فراجع.
ب- وايضاً يناقش بانه لو امكن التفكيك بين العلم (الصورة) والمعلوم كما نقول (هو العلم الذي يوجد قبل وجود المعلوم) فانه يقال بدواً بان هذا يستلزم التفكيك بين حضور الصورة وحضوره ووجود المعلوم وهذا خلاف العلم الحضوري لله تعالى.
(21) وربما تكون هذه الحواس في بعض الحيوانات اقوى منها في الإنسان كقوة حاسة البصر عند (القط) وقوة حاسة السمع عند (الخفاش) وغيره في حيوانات كثيرة. وقد توجد هذه الحواس في بعض النباتات وبالخصوص المائية كالاسفنج وغيرها.
(22) وهو الذي به تنكشف ظلمة الجهل، وأستاره وتنجلي أنوار العلم وأسراره، وهو مفتاح الأسرار ومشكاة الأنوار وبه تعرف الحقائق اليقينية والمعارف الحقيقية.
(23 ) المراحل التي يمر بها الإنسان هي:
1- مرحلة العلم الحسي.
2- مرحلة العلم الخيالي.
3- مرحلة العلم الوهمي.
4- مرحلة العقل والفكر.